لا يمكن لفيلم مثل “وحوش” للمخرج رودريجو جريرو أن يمر دون أن يترك في نفس المشاهد أثراً عميقاً. هو ليس مجرد فيلم عن العنف، بل عن التلاشي التدريجي للفصل بين الجلاد والضحية، وعن الطبيعة البشرية حين توضع في مواجهة مخاوفها وأطماعها. الفيلم، الذي يُعرض ضمن فعاليات الدورة الـ45 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، يأخذنا إلى أعماق النفس البشرية عبر سيناريو مشحون بالتوتر والأسئلة الأخلاقية المزعجة.
المنزل: مساحة للأمان أم ساحة للصراع؟
يدور الفيلم في منزل يبدو أنه ملاذ آمن لزوجين، سونيا وأرتورو، لكنه سرعان ما يتحول إلى ساحة حرب نفسية وجسدية عندما يقتحمه ثلاثة رجال مسلحين. هنا تتحول فكرة المنزل، التي طالما ارتبطت بالسكينة والأمان، إلى فضاء يعكس هشاشة هذا الأمان حين يواجه عنفاً خارجياً لا يمكن السيطرة عليه.
اختيار المنزل كمساحة مغلقة ومعزولة يعكس ببراعة رؤية المخرج: العزلة ليست فقط جغرافية، بل نفسية أيضاً. إنها عزلة الشخصيات عن العالم وعن بعضها البعض، عزلة تجعل كل خطوة داخل هذا المكان الكبير تبدو وكأنها رحلة داخل متاهة نفسية مرعبة.
سونيا وأرتورو ليسا مجرد ضحايا، بل هما رمزان لطبيعة الإنسان في مواجهة الخطر. سونيا تبدو أكثر حساسية وهشاشة، بينما أرتورو يحاول أن يلعب دور الحامي، لكنه سرعان ما ينغمس في لعبة القوة والسيطرة.
أما الثلاثة المهاجمون، فهم ليسوا مجرد أدوات للعنف. أصغرهم، الذي يقع في قبضة أرتورو، يصبح محور الأحداث. هنا تبدأ ملامح الصراع الأخلاقي تتشكل، وتتلاشى الحدود بين الجاني والضحية. المهاجم الشاب ليس مجرد وحش، إنه إنسان يحمل داخله ضعفاً وخوفاً يجعله أقرب إلى الضحايا منه إلى شركائه.
الوحوش: من هم حقاً؟
أحد أعظم إنجازات الفيلم هو دفع المشاهد للتساؤل: من هم الوحوش الحقيقية؟ هل هم المهاجمون الذين اقتحموا المنزل؟ أم الزوجان اللذان اختارا استخدام القوة في الرد؟ أم أن الوحشية تكمن في الظروف التي دفعت الجميع إلى هذا الموقف؟
هنا يتجاوز الفيلم السرد التقليدي عن الخير والشر. إنه عمل يُظهر أن الوحشية ليست حكراً على أحد، بل هي جزء من الطبيعة البشرية حين توضع في ظروف معينة.
يبرع رودريجو جريرو في استخدام الصورة لخلق أجواء توتر لا تنقطع. الإضاءة الخافتة، الزوايا الضيقة، وحركة الكاميرا التي تتابع الشخصيات عن كثب تجعل المشاهد يشعر وكأنه محاصر داخل المنزل معهم.
الإيقاع البصري يعكس حالة الشخصيات النفسية. في البداية، تبدو الكاميرا هادئة وموجهة، لكنها تصبح أكثر اضطراباً مع تطور الأحداث، وكأنها انعكاس للانهيار التدريجي للنظام الداخلي للشخصيات.
الموسيقى والصمت: شريكان في الجريمة
الموسيقى التصويرية في “وحوش” ليست مجرد خلفية صوتية، إنها جزء أساسي من السرد. في بعض اللحظات، تختفي الموسيقى تماماً، ليصبح الصمت جزءاً من المشهد، يعكس التوتر والانقطاع عن العالم الخارجي.
الصوت هنا ليس مجرد وسيلة لإيصال المشاعر، بل هو عنصر يُستخدم للتلاعب بالمشاهد، لإدخاله في حالة من الترقب المستمر، وكأنه هو الآخر أسير داخل المنزل.
نهاية مفتوحة وأسئلة بلا إجابات
حين تنتهي أحداث “وحوش”، لا يقدم الفيلم إجابات واضحة. على العكس، يترك المشاهد أمام أسئلة مفتوحة: ماذا حدث بعد ذلك؟ هل انتصر أحدهم؟ هل فقد الجميع إنسانيتهم؟
هذه النهاية المفتوحة ليست مجرد اختيار درامي، بل هي دعوة للتفكير في طبيعة الصراعات البشرية. الفيلم لا يقدم حلاً، لأنه يعرف أن الوحشية ليست شيئاً يمكن القضاء عليه بسهولة، إنها جزء من العالم الذي نعيش فيه.
“وحوش” ليس مجرد فيلم عن العنف، إنه رحلة فلسفية داخل النفس البشرية. من خلال سيناريو عميق وإخراج متقن، يطرح الفيلم أسئلة عن الخير والشر، الضحية والجاني، الأمان والخوف.
في النهاية، يترك الفيلم المشاهد مع شعور ثقيل، لكنه ضروري: شعور بأننا جميعاً قد نكون وحوشاً في لحظات معينة، وأن الحدود بين الإنسان والوحش ليست دائماً واضحة كما نعتقد.