إذا كان الفن هو مرآة المجتمعات، فإن أشرف عبد الغفور كان الصورة النقية التي عكست قِيَم الفن وأخلاقياته قبل أن تعكس موهبته وإبداعه، وفي ذكرى وفاته الأولى، نقف أمام شخصية نادرة في الساحة الفنية المصرية، شخصية لا يمكن اختزالها في مجرد مسيرة فنية، بل هي نموذج متكامل للإنسان الفنان، والفنان الإنسان.
في تاريخ الفن المصري، هناك أسماء لا ترتبط فقط بموهبتها الفنية، بل بجوانب أخرى تجعلها أكثر قربًا من الجمهور، وأكثر تألقًا في الذاكرة الثقافية للأمة، أشرف عبد الغفور، الفنان الراقي في الأداء والروح، أحد هذه الأسماء التي لن تنساها الساحة الفنية ولا الجمهور الذي تعلّق بفنه وشخصيته.
منذ ظهوره الأول على المسرح، وحتى آخر ظهور له على الشاشة، كان أشرف عبد الغفور حالة خاصة تجمع بين الرقي الفني والتواضع الشخصي، بين الالتزام الأخلاقي والموهبة الاستثنائية، وبين الحضور الهادئ والتأثير العميق.
الفن كرسالة: المسرح معبده الأول
في مسيرة أشرف عبد الغفور، كان المسرح يحتل المكانة الأسمى. لم يكن المسرح بالنسبة له مجرد مهنة أو منصة للعروض، بل كان أشبه بمعبد مقدس، يدخل إليه بروح المتعبد لا بروح الباحث عن الأضواء.
لقد أبدع على خشبة المسرح في أدوار تحمل من العمق الفكري ما يتجاوز حدود النصوص المكتوبة. كان أداؤه في مسرحيات مثل “حفلة على الخازوق” مثالًا على قدرته على تحويل الشخصيات إلى رموز تحمل معاني إنسانية كبرى. لم يكن يسعى لإبراز ذاته بقدر ما كان يسعى لإيصال رسالة المسرح، وهي أن الفن يمكن أن يغير الإنسان، ومن ثم العالم.
لم تكن أدواره السينمائية والتلفزيونية تقليدية أو عابرة، بل كانت دائمًا ترتكز على تقديم الإنسان بكل تناقضاته وتعقيداته. في أعمال مثل “حديث الصباح والمساء” و*”ذئاب الجبل”*، جسّد أشرف عبد الغفور شخصيات ذات أبعاد متداخلة، قادرة على أن تمس وجدان المشاهد وتثير في عقله أسئلة حول الحياة والمصير.
ما يميز أداءه هو هذا التوازن العجيب بين العمق والبساطة؛ فهو قادر على تقديم أعقد المشاعر الإنسانية بأقل قدر من المبالغة، مستخدمًا في ذلك صوته الرخيم ونظراته التي تحمل في طياتها معاني تفوق الكلمات.
الفنان الملتزم: عندما تصبح الأخلاق فنًا
في زمن بدأت فيه القيم الأخلاقية تتراجع أمام بريق الشهرة وسرعة النجاح، كان أشرف عبد الغفور نموذجًا للفنان الذي يضع الأخلاق فوق كل اعتبار. لم يكن ذلك مجرد شعار يتحدث عنه في المقابلات، بل كان سلوكًا يوميًا في حياته المهنية والشخصية.
لقد جسّد قيم الالتزام والصدق في كل خطوة من مسيرته. لم يشارك في أعمال لا تتماشى مع قناعاته، ولم يسعَ يومًا وراء الأدوار السهلة أو المربحة فقط. كان يختار أدواره بعناية، مدركًا أن الفنان لا يقدم نفسه فقط، بل يقدم قيمًا ورؤى تؤثر في الجمهور.
الإنسانية قبل الشهرة: درس في التواضع
بعيدًا عن أضواء الكاميرات وخشبة المسرح، كان أشرف عبد الغفور إنسانًا يفيض تواضعًا ورقيًا. كان يرى أن الشهرة مسؤولية قبل أن تكون مكسبًا، وأن احترام الجمهور هو أغلى ما يمكن أن يملكه الفنان.
كان قريبًا من زملائه، داعمًا لهم في الأوقات الصعبة، وموجهًا للأجيال الجديدة من الفنانين. لم يكن منافسًا بقدر ما كان شريكًا في صناعة الفن، حريصًا على أن تكون هذه الصناعة صورة مشرفة لمصر وللمجتمع.
في رحيله، لم يترك أشرف عبد الغفور فراغًا بقدر ما ترك إرثًا. هذا الإرث ليس فقط في أدواره الفنية التي ستظل خالدة في ذاكرة الجمهور، بل في القيم التي جسّدها طوال حياته.
إنه الفنان الذي علّمنا أن الفن ليس مجرد موهبة، بل التزام ومسؤولية. إنه الإنسان الذي أظهر لنا أن الأخلاق يمكن أن تكون أعظم أشكال الإبداع.
الحياة التي أصبحت رسالة
في ذكرى وفاته الأولى، لا يمكننا أن نتحدث عن أشرف عبد الغفور كذكرى ماضية، بل كرسالة حاضرة ومستقبلية. لقد عاش حياته كما لو كان يؤدي دورًا خالدًا، دور الفنان الذي يرى في فنه انعكاسًا لقيمه، وفي حياته انعكاسًا لفنه.
رحل أشرف عبد الغفور، لكن روحه باقية، تسكن في كل من شاهد أدواره، وتأمل في مسيرته، وتعلم من التزامه. إنه الفنان الذي لن يتكرر، والإنسان الذي لن يُنسى.