كان نبيل الحلفاوي، هذا الاسم الذي أصبح، بمرور الوقت، واحدًا من الأيقونات التي يتردد صداها في أعماق الذاكرة الجمعية للجمهور المصري، أكثر من مجرد فنان. هو كائن تائه في متاهات الحياة، يبحث عن ذاته بين الأدوار التي يؤديها، وبين الشخصيات التي يتقمصها. وكان، مثل بطل رواية “الأخوة كارامازوف” لديستويفسكي، يقتات من الأسئلة التي لا نهاية لها حول الوجود والهوية والمصير. في كل دور يلعبه، كان هناك شيء يراوده، يطارده، شيء يتجاوز مجرد التمثيل والتجسيد لشخصية أخرى، إنه سعيه الدائم لفهم هذا العالم، الذي يبدو وكأنه يفر منه في كل لحظة، ويبتسم له في لحظات أخرى بغموض.
في عالم مليء بالسطحية، حيث يعم الصخب ولا تكاد تبرز إلا الظلال الخفيفة لأرواح البشر، كان نبيل الحلفاوي ذلك الشخص الذي رفض أن يكون مجرد ظل. وكان يعلم، أن الإنسانية ليست مجرد مجموعة من التصرفات الظاهرة، بل هي شبكة معقدة من المشاعر والأفكار المتناقضة. هذا هو السبب في أن الحلفاوي، في كل مرة يقدم فيها دورًا جديدًا، كان يتراءى للمشاهد ككائن أكثر من كونه ممثلًا. كان يبدو كأن الفن في داخله، يتسرب من أعضائه ويفيض في عينيه، كما يفعل الدخان في مسرح مكتظ بالضباب.
عُرف عن نبيل الحلفاوي اختياره الصعب للأدوار، مسألة حياة أو موت. كان الحلفاوي يرفض أن يكون أداة في أيدي مخرجين أو منتجين، بل كان يسعى ليكون صانعًا حقيقيًا لواقعه الفني. وعندما كانت العروض التليفزيونية أو السينمائية تلوح أمامه، كان يقترب منها بحذر، مدركًا أن أي خطوة خاطئة قد تعني انزلاقه إلى هاوية الفن التجاري أو الابتذال. لكن المعضلة التي كان يواجهها لم تكن فقط في اختيار الأدوار، بل في فهم نفسه، في إيجاد مكانه في هذا العالم الذي يكتظ بالفوضى، كان يشعر بنزعة داخلية حادة تدفعه نحو الأسئلة الكبرى التي لا جواب لها.
في “المال والبنون” و”الحارة”، كانت شخصيات الحلفاوي تسبح في مياه متشابكة من الأسئلة الوجودية التي أرهقت أنفسهم. كان يشق طريقه وسط هذه المتاهات، محاولًا العثور على مخرج من هذا العالم الذي لا يرحم. في كل مشهد، كان يلعب دورًا، لكنه في الوقت نفسه كان يحاول فهم حدود إنسانيته. كان يكشف للجمهور عن عيوبه، كما يفعل بطل “الشياطين” لديستويفسكي، الذي يحاول جاهداً التوفيق بين ماضيه المظلم ومستقبله الغامض.
ومثلما اعتقد أن الإنسان لا يمكنه أن يكون سعيدًا إذا كان غارقًا في تمثيل الحياة فقط، كان الحلفاوي يعيش دوره، ولكنه كان يحاول دومًا أن يكون صادقًا مع ذاته، حتى وإن كانت تلك الصدقية تعني مواجهة كل متاعب الوجود. لم يكن الحلفاوي ذلك الفنان الذي يكتفي بمظاهر الشخصيات. بل كان يبحث في دواخلها، ويتأمل في كل كلمة، كل حركة، وكل لحظة من لحظات الضعف الإنساني التي كانت تتكشف أمامه.
قد يقول البعض إن نبيل الحلفاوي كان، ببساطة، فنانًا عبقريًا، ولكن أولئك الذين التقطوا ذلك العمق في أدائه، علموا أن هناك شيئًا أكبر من مجرد “العبقرية” التي تكتنفه. كان الحلفاوي، في جوهره، أكثر من مجرد فنان، كان إنسانًا يبحث في التمويه والدهشة عن الحقيقة التي لا نراها، كان عالقًا في أزمنة مختلفة، محاصرًا بين شعور بالحتمية والاختيار. كان يقدم ذاته على خشبة المسرح كما لو كانت معركة بينه وبين الكون نفسه، كما لو كان يقف أمام محاكمة روحية يعترف فيها بأخطائه البشرية بينما يحاول أن يفهم المكان الذي يخصه في هذا العالم الفوضوي.
وفي كل لحظة، كان يتشبث ببصيص من الأمل، رغم يقينه العميق أن الحياة لا تقدم حلولًا نهائية. هو، لم يكن يبحث عن الحقيقة التي تريح الروح، بل كان يبحث عن حقيقة تكشف له العوالم المخفية عن عينيه، والتي قد تكون أشد قسوة من أي محاكمة بشرية.
أينما كان، في السينما أو في المسرح، كان نبيل الحلفاوي يظل ذلك الكائن الذي يرفض الزيف، ويتسلح بأدواته الفنية ليغرقنا في الأسئلة التي لا نعرف كيف نجيب عليها. هو كان فنًا، وفي نفس الوقت كان يشكل تحديًا للواقع. وكما قال ديستويفسكي، “إن أعظم مأساة في الحياة هي أن نكون موجودين في عالم لا نفهمه”.