في لحظة تتشابك فيها السينما مع هموم المجتمع، وتلتقي فيها الثقافات المختلفة على أرض واحدة، ينبثق مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الخامسة والأربعين ليكون حدثًا استثنائيًا يعكس رقي الفن ودوره في إيصال رسائل مهمة للمجتمعات. الدورة الحالية لم تكن فقط موعدًا آخر للاحتفال بجمال السينما وروعتها، بل كانت أيضًا مناسبة لتأكيد القوة الرمزية التي تحملها هذه الفاعلية العريقة في قلب العالم العربي.
المهرجان في هذه الدورة لم يكن احتفالًا روتينيًا بعيدًا عن الواقع، بل كان نقطة فاصلة وجسرًا لربط القضايا الإنسانية الكبرى بالسينما العالمية. كانت السينما سيدة هذا اللقاء، لكن القضية الفلسطينية فرضت نفسها على الحدث بكل قوة، ليكتمل جمال الافتتاح بفيلم “أحلام عابرة” للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي الذي كان بمثابة توقيع فني عميق على التضامن مع شعب يعاني ويمثل حلمًا وواقعًا إنسانيًا مكسورًا.
مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ45 لم يكن مجرد نافذة تعرض أفلامًا، بل كان نافذة يتأمل من خلالها الحضور في قضايا الوطن العربي والعالم. السينما كانت دائمًا سيدة المهرجانات، ولكن هنا في القاهرة، كان الفيلم أكثر من مجرد حكاية تُروى، كانت أصوات فلسطين الحاضرة في كل زاوية من الحدث. كانت الرسالة واضحة، من خلال فيلم الافتتاح “أحلام عابرة”، كانت السينما تتجاوز كواليسها لتصبح صوتًا للحق والحرية.
وفي هذه الدورة، اختار القائمون على المهرجان أن يقدموا للمشاهدين فيلمًا يحمل في طياته رسالة قوية، ليس فقط عن معاناة الشعب الفلسطيني، بل عن طموحاته، عن تلك الأحلام التي يتنقل بها بين أرضين، والتي لا يُسمح له بتحقيقها. كان الفيلم بمثابة تجسيد للحالة الإنسانية التي يعكسها المهرجان هذا العام.
“أحلام عابرة”: تأمل في أفق القضية الفلسطينية
فيلم “أحلام عابرة” للمخرج رشيد مشهراوي، الذي افتتح به المهرجان هذا العام، هو عمل سينمائي بعيد عن المألوف، ليس فقط لأنه يتناول القضية الفلسطينية، ولكن لأنه يتخطى الجدران السياسية لينغمس في الروح الإنسانية. مشهراوي، المخرج الفلسطيني المعروف، لا يقدم فيلمًا يعبر فقط عن الألم الفلسطيني، بل يعكس أيضًا حنينًا مشتركًا بين الإنسان وأحلامه.
الفيلم يروي قصة مجموعة من اللاجئين الفلسطينيين الذين يسعون إلى الهجرة إلى خارج حدود وطنهم، لكنهم يجدون أنفسهم عالقين في لعبة الانتظار. ورغم أن الفيلم يسلط الضوء على قسوة الواقع، إلا أنه لا يغفل عن الجانب الإنساني، عن الطموحات، والمشاعر المتأججة في القلوب، التي تتوق إلى العيش بحرية دون قيود. كانت هذه الرسالة هي التي اختارها مهرجان القاهرة السينمائي لتكون رسالة الافتتاح لهذا العام.
ما يميز هذا الفيلم هو قدرته على تقديم القضية الفلسطينية من زاوية إنسانية، حيث التركيز على معاناة الإنسان قبل أن تكون المعاناة السياسية. هذه المعالجة الفنية العميقة للأزمة الفلسطينية تجعل من “أحلام عابرة” أكثر من مجرد فيلم يروي قصة شعب، بل هو انعكاس لآلام جيل كامل يكابد من أجل حقه في الحياة.
المهرجان لم يكن مجرد احتفال بالأفلام، بل كان صرخة تضامن مع القضية الفلسطينية التي تظل أولوية في الفكر العربي. في لحظة كانت فيها الفنون تتراقص على السجادة الحمراء، كان للسينما رسالة قوية وصلت إلى كل الحضور: “لن ننسى فلسطين”. كانت هناك لمسة واضحة لهذا التضامن من خلال حضور شخصيات بارزة ومؤثرة في الساحة الفنية، حيث اتفق الجميع على أن الفن لا يمكن أن يكون بعيدًا عن القضايا الكبرى.
في حفل الافتتاح، كانت هناك إشارات واضحة لدعم فلسطين، فلم يكن فقط الفيلم هو من يحمل الرسالة، بل كانت الوجوه التي كانت حاضرة في المهرجان تتحدث بلغة واحدة، لغة الإنسانية التي لا يمكن أن تفرّق بين الجنسيات أو الحدود السياسية. كان من الواضح أن الحضور كان يشعر بأن التضامن مع فلسطين لم يكن مجرد واجب عاطفي، بل كان ضرورة فكرية وفنية أيضًا.
كانت تلك اللحظة التي جسدت معنى أن السينما ليست فقط عن الحكايات التي تُعرض على الشاشة، بل عن الرسائل التي تنقلها إلى قلوب الجمهور، وبما أن السينما الفلسطينية لطالما كانت قادرة على توصيل هذه الرسائل بطريقة مؤثرة، كان من الطبيعي أن يكون فيلم “أحلام عابرة” هو الاختيار المثالي لهذه الدورة التي تزامنت مع أحداث غاية في الخطورة لفلسطين وشعبها.
السينما الفلسطينية في مهرجان القاهرة: ملامح الفكرة والأمل
تعتبر السينما الفلسطينية من أكثر السينمات تأثيرًا في العالم، فبجانب كونها منصة لعرض الجمال الفني، إلا أنها تصبح أداة سياسية تحمل رسائل قوية للسلام والعدالة. في مهرجان القاهرة، كانت السينما الفلسطينية حاضرة بأبهى صورها. كان وجود فيلم “أحلام عابرة” في افتتاح المهرجان فرصة لتسليط الضوء على السينما الفلسطينية كجزء من السينما العالمية، وليس مجرد سينما محلية ضيقة، بل هي جزء من حركة إنسانية كبيرة تجسد التطلع للحرية.
ومع تصاعد الأوضاع السياسية في المنطقة، فإن السينما الفلسطينية أصبحت منصة لتعريف العالم بحقيقة ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة. كان لهذا الوجود القوي للسينما الفلسطينية في مهرجان القاهرة رسالة واضحة: نؤمن بقوة الصورة، ونعلم أن السينما يمكنها أن تغير الوعي وتفتح الطريق أمام المستقبل.
الحضور العربي والعالمي: الفنون في مواجهة الواقع
كما هو الحال في كل مهرجان سينمائي، يجذب مهرجان القاهرة السينمائي في كل دورة كوكبة من كبار الفنانين والنقاد وصناع السينما من مختلف دول العالم. لكن هذه الدورة، التي تزامنت مع الحدث الفلسطيني الراهن، كانت مختلفة. لم يكن الحضور مجرد توافد على الشاشة، بل كان حضورًا فعالًا يشارك في صنع الرسائل التي حملتها الفعاليات.
لقد كانت لحظة الافتتاح أكثر من مجرد احتفالية، بل هي لحظة تضامن مع القضايا التي تمثل ضمير الإنسانية، ولعل التضامن مع فلسطين كان القاسم المشترك بين جميع الحاضرين. هذا التضامن كان أكثر وضوحًا من خلال الكلمات التي أُلقيت على المسرح، وكذلك من خلال تعبيرات الوجوه التي كانت تنطق بصمت عن رغبتها في دعم فلسطين.
لا تقتصر السينما على كونها مجرد مصدر للترفيه أو الفن الجمالي، بل هي أداة قوية للتغيير الاجتماعي. هذه الفكرة تتجسد بشكل لافت في مهرجان القاهرة هذا العام. حيث لم يكن الهدف فقط هو عرض الأفلام، بل كان المهرجان يهدف إلى إبراز السينما كأداة توعية، وتحفيز الفكر النقدي، وتعزيز التضامن بين الشعوب.
ففي ظل التحديات السياسية التي تواجهها المنطقة العربية، يبقى مهرجان القاهرة السينمائي منصة لا غنى عنها لإثبات أن الفن لا يمكن أن يكون في عزلة عن قضايا الأمة. من خلال هذا التضامن الكبير مع فلسطين، تم التأكيد على أن السينما، التي تربط بين الفنون والحقيقة، هي وسيلة للقول بأن العالم لا يمكن أن يتجاهل معاناة شعب بأكمله.
إن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ45، وما حمله من رسالة عبر فيلم الافتتاح “أحلام عابرة” والتضامن مع القضية الفلسطينية، يُعتبر نقطة فارقة في مسار المهرجانات السينمائية العربية والعالمية. هذا المهرجان ليس مجرد حدث فنّي عابر، بل هو رسالة قوية تُرسل إلى العالم مفادها أن السينما هي صوت إنساني، وهي سلاح ناعم في مواجهة القهر والظلم. ومن خلال هذه الدورة، أكد مهرجان القاهرة أنه يبقى الساحة التي تتلاقى فيها السينما مع القضايا الإنسانية الكبرى.