في زاوية الوجدان المصري، حيث تختبئ القلوب التي تُرهف السمع قبل العيون، يعيش اسم عمار الشريعي كعزفٍ خفي على أوتار الحنين. مرّت سنوات على رحيله، وما زالت ألحانه تتسلل إلى حياتنا كنسيم في يوم قائظ، تذكرنا بأنه كان هنا، موسيقارًا، ملهمًا، ومعلمًا تجاوز حدود الموسيقى ليصبح صوتًا للوطن والإنسانية. لكن، هل أنصفناه حقًا؟
في مدينة صغيرة بمحافظة المنيا، ولد عمار علي محمد إبراهيم الشريعي في السادس عشر من أبريل عام 1948. لم يرَ النور بعينيه، لكنه أضاء الدنيا بألحانه. نشأ في بيت يشبه الريف المصري بكل تفاصيله: الأحاديث الدافئة، وحكايات الجدات، والأغاني الشعبية التي تتسرب من أفواه الفلاحين. ربما كان هذا العالم البسيط هو الشرارة التي أشعلت في داخله حب الموسيقى.
عمار لم يكن مجرد موسيقي موهوب، كان عازفًا على أوتار المعاناة. تلك الإعاقة البصرية التي بدت كعقبة، لم تكن سوى نافذة فتحت أمامه عوالم من الإبداع. لم يكن يحتاج إلى عينيه لرؤية الجمال، فقد كان يسمعه ويخلقه.
إذا كان هناك شيء يميز عمار الشريعي عن غيره، فهو شجاعته الموسيقية. كان ثائرًا، لكنه ليس على طريقة المتمردين العشوائيين، بل على طريقة الفلاسفة الذين يطرحون الأسئلة ويبحثون عن الإجابات. ألحانه التي زينت أشهر المسلسلات المصرية مثل “رأفت الهجان” و”دموع في عيون وقحة” لم تكن مجرد موسيقى تصويرية، بل كانت شريكة في الحكاية، تضيف إلى النص وتُعمّق الشخصيات.
لكن هذا التجديد لم يخلُ من الانتقاد. فقد رأى البعض أن عمار تأثر بالموسيقى الغربية أكثر مما ينبغي، وأن هذا التأثير أضعف الطابع الشرقي لأعماله. إلا أن الحقيقة أن عمار لم يكن يتبع التقليد، بل كان يبحث عن التعبير الأصدق، وهو ما جعله يتجاوز الحدود الموسيقية التقليدية.
شجاعة عمار لم تكن خالية من الجدل. فقد اتهمه البعض بالتغريب والخروج عن تقاليد الموسيقى العربية. قالوا إنه تأثر كثيرًا بالموسيقى الغربية، وإنه مزجها بما لا يليق بالهوية العربية. لكن الحقيقة أن عمار كان يعيد صياغة الهوية، وليس استبدالها. كان يقول دائمًا: “الموسيقى لغة عالمية، لكن لكل أمة لهجتها الخاصة”.
عمار لم يكن مجرد موسيقي، بل كان إنسانًا بامتياز. كانت ألحانه تعكس روحه النقية، سواء عندما لحّن أغنيات وطنية تنبض بالحب لمصر، أو حين قدم ألحانًا خالدة. كان يؤمن أن الموسيقى ليست مجرد أصوات متناغمة، بل هي رسالة تحمل المعاني، وتُلامس القلوب.
ربما كان أكثر ما يميز عمار هو قدرته على التعبير عن الإنسانية بكل تناقضاتها. ألحانه كانت خليطًا من الحزن والفرح، القوة والضعف، الشوق والرضا. هذا البعد الإنساني جعله قريبًا من كل من يسمعه، بغض النظر عن خلفياتهم أو اهتماماتهم.
رغم النجاحات الكبيرة التي حققها عمار، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه دائمًا: هل أخذ حقه في حياته؟
البعض يرى أنه لم يُكرم بالشكل الذي يليق بموهبته. لم يحصل على الجوائز الكبرى التي يستحقها، ولم تُسلط عليه الأضواء كما كان ينبغي. ربما كان السبب هو شخصيته البسيطة التي لم تكن تسعى للشهرة، أو ربما لأنه كان مختلفًا، والتاريخ دائمًا ما يتأخر في الاعتراف بالمختلفين.
عمار كان مدرسة موسيقية قائمة بذاتها، لكنه لم يجد مؤسسة تدعمه أو تُبرز أعماله. كثير من الملحنين الأقل موهبة منه حصلوا على فرص أكبر للترويج، بينما ظل هو يعزف في ظلال التواضع.
في السابع من ديسمبر 2012، غاب عمار الشريعي عن دنيانا. لكن رحيله لم يكن نهاية القصة. ألحانه ما زالت تعيش بيننا، تروي لنا حكايات عن وطن، عن إنسان، وعن موسيقى لا تعرف الحدود.
لكن حتى بعد رحيله، لم يُحتفَ به بالشكل اللائق. لم تُنظم له مهرجانات كبرى تُخلد إرثه، ولم يُوثق تاريخه الموسيقي كما ينبغي. هل هذا ناتج عن قصر نظر المؤسسات الثقافية؟ أم أن المجتمع المصري لم يكن مستعدًا لتقدير عبقرية مثل عبقرية عمار؟
رغم كل ما فات، لا يزال هناك أمل لإنصاف عمار الشريعي. يمكن البدء بتوثيق أعماله وإعادة تقديمها للأجيال الجديدة. يجب أن تُدرس موسيقاه في معاهد الموسيقى، وأن تُقام له مهرجانات تليق باسمه.
لكن الأهم من ذلك هو أن نتعلم من تجربة عمار. أن ندرك أن الموهبة الحقيقية لا تحتاج إلى أضواء زائفة، وأن الفن العظيم هو الذي يبقى رغم كل شيء.
عمار الشريعي لم يكن مجرد موسيقي، بل كان درسًا في الحياة. علمنا أن الإعاقة ليست عائقًا، وأن الفن يمكن أن يكون جسرًا يربط بين القلوب.
لكن السؤال الذي يبقى عالقًا في الأذهان: هل سنظل ننتظر حتى يرحل المبدعون لنقدرهم؟ أم أن عمار الشريعي سيكون نقطة تحول في طريقة تعاملنا مع العباقرة الذين يعيشون بيننا؟
إن الإجابة على هذا السؤال هي الخطوة الأولى نحو إنصاف عمار، والاعتراف بأنه لم يكن مجرد موسيقار، بل كان رمزًا للإبداع والإنسانية في أجمل صورهما.