في أروقة السينما العالمية، لا تنتهي المفاجآت.. لكن حين تتحول أنجلينا جولي إلى ماريا كالاس، تتحول المفاجأة إلى مغامرة فنية جريئة، تأخذنا إلى أعماق الروح والإبداع. فيلم السيرة الذاتية الجديد Maria،الذي أخرجه المبدع بابلو لارين، لا يعيد فقط إحياء واحدة من أعظم مغنيات الأوبرا في القرن العشرين، بل يكشف عن علاقة إنسانية وفنية معقدة بين الممثلة والشخصية التي تجسدها.
ماريا كالاس، الاسم الذي ما زال يتردد كصدى خالد في قاعات الأوبرا حول العالم، لم تكن مجرد مغنية. لقد كانت ثورة صوتية وإنسانية. كالاس عاشت صراعًا داخليًا بين متطلبات الفن وضغوط الحياة الشخصية. كان صوتها يحمل قصة الوحدة، الحب، والألم الذي لا يُنسى، وهو ما جعل منها رمزًا يتجاوز الموسيقى إلى عمق الإنسان نفسه.
اختيار أنجلينا جولي لهذا الدور لم يكن مجرد قرار مهني، بل كان أشبه برحلة وجودية. في حديثها عن الدور، صرحت جولي: “لا أريد الحديث كثيرًا لأنه شخصي للغاية. لكن هناك شعور بالوحدة يمكنني أن أتعاطف معه.” هذا الاعتراف يكشف جانبًا جديدًا من جولي، يتجاوز صورتها النمطية كنجم عالمي إلى امرأة تبحث عن الروح في الفن.
تحدث المخرج بابلو لارين عن التحديات التي واجهتها جولي قائلاً: “التدريب كان شاقًا وطويلًا. لم يكن فقط عن تعلم الوقوف أو التنفس كفنانة أوبرا، بل كان عن الغوص في عمق شخصيتها وفهم تعقيدها.” لمدة سبعة أشهر، انغمست جولي في عالم كالاس، متقنةً الغناء بالإيطالية والفرنسية، متغلبة على تحديات الموسيقى والنغمات.
في حديثها عن ماريا كالاس، كشفت جولي عن قواسم مشتركة عميقة: “كانت ترى نفسها مؤدية، عاملة لديها مهمة. أنا أراها كذلك. نحن قاسيتان على أنفسنا، ولكننا نعمل بجد.” هنا يتضح أن جولي لم تؤدِ فقط دورًا، بل وجدت انعكاسًا لنفسها في كالاس.
هل كانت جولي تبحث عن ماريا، أم كانت تبحث عن جزء مفقود من ذاتها؟ العلاقة بين الممثلة والشخصية التي تجسدها تكشف عن طبقات من التماهي العاطفي والفني، تجعل من الفيلم رحلة تتجاوز الشاشة.
يأتي هذا الفيلم من توقيع المخرج بابلو لارين، الذي سبق وأبهر الجمهور برؤيته في أفلام السير الذاتية مثل Jackie وSpencer. لكنه مع Maria، لا يعيد تقديم ماريا كالاس فحسب، بل يسبر أغوار شخصية أنجلينا جولي نفسها، ويضعها في اختبار نادر بين الفنانة والإنسانة.
لارين لا يقدم ماريا كالاس كمجرد مغنية أوبرا، بل كإنسانة تحمل على عاتقها عبء الفن والوحدة. وفي الوقت نفسه، يكشف عن جولي كفنانة قادرة على احتضان تلك التعقيدات وتقديمها بصدق مذهل.
يبعث هذا الفيلم تساؤلات عميقة عن قدرة الممثل على تجسيد شخصيات تتطلب خبرات خارج إطار حياته. كيف يمكن لجولي، التي لم تكن مغنية أوبرا، أن تجسد صوت ماريا كالاس؟ هل يمكن للتدريب وحده أن يمنحها القدرة على الوصول إلى روح الشخصية؟
لكن الإجابة تأتي من المخرج نفسه: “الأمر لا يتعلق فقط بالإتقان الفني، بل بفهم الروح. وأنجلينا لديها تلك القدرة”.
الفيلم لا يسرد فقط قصة مغنية أوبرا، بل يحكي حكاية إنسانية عميقة عن الوحدة، الانضباط، والفن الذي يتحدى الزمن. ومن خلاله، تقدم أنجلينا جولي نفسها كفنانة من نوع خاص، قادرة على الانغماس في أصعب الأدوار واستخراج جوهر الشخصيات.
ليس مجرد فيلم بل دعوة لاستكشاف أبعاد جديدة في علاقة “ماريا” الإنسان بالفن، إنه عمل يجمع بين ماضٍ موسيقي خالد وحاضر سينمائي يجرؤ على السؤال عن حدود التقمص والإبداع.
ماريا كالاس: أسطورة لا تنطفئ، وأنجلينا جولي: نور جديد يتألق عبر ظلالها. القصة الكاملة تُروى من جديد، ولكن هذه المرة بصوتين، وروحين، وزمنين.