في ليلة باردة، تغمرها أنوار المسرح ونغمات الألحان، يُطل علينا عرض “مش روميو وجوليت”، وكأنه مرآة تعكس الوجه الآخر للحب والصراع.. المسرحية ليست مجرد إعادة تقديم لقصة شكسبير الخالدة، بل هي إعادة صياغة جريئة تتسلل إلى روح الواقع المصري، لتحاكي أحلام الشباب وآمالهم وهم يصارعون ضد التيارات المعاكسة.
في هذه المسرحية، يتحول الحب من غاية إلى وسيلة لفهم الذات والعالم. إنه ليس فقط علاقة عاطفية بين رجل وامرأة، بل هو انعكاس لصراع داخلي بين التمسك بالهوية والانفتاح على الآخر.
في هذا العمل المسرحي، الذي يطوف بين أروقة التراجيديا والابتسامات الخافتة، تتبدى أرواح الشخصيات كأنها تُخرج من رحم الألم أسئلة الحياة الأكثر تعقيدًا: الحب، القدر، والبحث عن المعنى. وبين كل هذه التساؤلات، يبرز رانيا فريد شوقي وعلي الحجار كأيقونتين تجسدان الصراع الأبدي بين القلب والواقع.
قدمت رانيا فريد شوقي أداءً أشبه بلوحة حية رسمت بخطوط جريئة وألوان متناقضة. لم تكن زهرة نسخة أخرى من الفتاة الشكسبيرية المرهفة التي تنتظر خلاصها من خلال الحب، بل كانت شخصية مصرية مُحدثة تحمل في قلبها الثورة وفي عينيها الحلم المكسور. ولم تكن علاقتها بالأستاذ يوسف، الذي قدمه علي الحجار، علاقة روميو وجولييت كما قد يُفهم من الظاهر، بل كانت علاقة إنسانية أعمق، قائمة على الصداقة والأخوة التي تجمع بين جيران متفاهمين من خلفيات دينية مختلفة.
زهرة، كما جسدتها رانيا، لم تكن مجرد شخصية عادية بل رمزًا للمقاومة والصمود في وجه التقاليد الجامدة، بينما حافظت على نقاء العلاقة مع جيرانها، خاصة الأستاذ يوسف. كان أداؤها مليئًا بالتناقضات التي تعبر عن هشاشة الإنسان وقوة المرأة التي ترفض الانصياع للقدر المكتوب، متجاوزة الحب الرومانسي لتقدم صورة للصداقة النقية القائمة على الاحترام والتعايش.
في كل كلمة نطقتها، كان هناك صدى لنساء عشن في الظل، خضن معارك صامتة ضد مجتمع يُقيد أحلامهن. لقد أعطت “زهرة” بعدًا جديدًا، حيث أصبحت أيقونةً للمرأة التي ترفض الانصياع للقدر المكتوب.
كان أداء رانيا ينبض بالتناقضات التي نعيشها جميعًا: الخوف من المجهول والإصرار على مواجهته. في مشاهدها مع “يوسف”، لم تكن شريكة حب، بل كانت مرآةً تعكس صراعه الداخلي، وتُبرز مزيجًا نادرًا من القوة والحنان.
رانيا، بحضورها المسرحي العفوي والناضج، أعطت “زهرة” عمقًا جديدًا يتجاوز الحلم الرومانسي المعتاد. لم تكن جوليتها تلك الفتاة التي تنتظر الخلاص في أحضان روميو، بل كانت امرأة تملك إرادة قوية وقادرة على مواجهة العالم من أجل علاقتها بيوسف. تمكنت رانيا من المزج بين قوة الشخصية ونعومتها، حيث كان أداؤها مزيجًا متوازنًا بين الحدة والرقة، وبين الغضب والحنان.
ما يميز رانيا هو قدرتها الفائقة على التعبير عن مشاعر معقدة باستخدام مزيج من اللغة الجسدية ونبرة الصوت. كانت كل نظرة، كل حركة وكل وقفة على خشبة المسرح مدروسة بعناية، لتعكس التحولات الداخلية التي تمر بها الشخصية. في لحظات الصراع، كان يمكن للمشاهد أن يرى التردد والألم في عينيها، بينما في لحظات الحب، كانت تملأ المسرح بنور يشع من حضورها.
رانيا، ابنة الفنان الكبير فريد شوقي، نجحت في إثبات نفسها كفنانة مستقلة لها بصمتها الخاصة. حملت إرث والدها الفني، ولكنها أضافت إليه رؤيتها وإحساسها الفريد. في هذا الدور، أظهرت رانيا أنها قادرة على المزج بين الكلاسيكية والمعاصرة، بين التقاليد والتجديد، لتقدم شخصية “زهرة” في “مش روميو وجوليت” تناسب عصرنا دون أن تفقد صلتها بجذورها.
في العديد من المشاهد، تجاوزت رانيا النص المكتوب لتضيف من روحها إلى الشخصية. كان واضحًا أنها تفهم “زهرة” ليس فقط كدور تؤديه، بل كإنسانة تعيش الصراع بين الحب والواقع. هذا الإدراك العميق للشخصية أضفى على أدائها أبعادًا جديدة، جعلت الجمهور يشعر بأن “زهرة” ليست مجرد شخصية في المسرحية، بل هي رمز للمرأة التي تحارب من أجل تحقيق ذاتها.
رانيا فريد شوقي لم تكن مجرد ممثلة تؤدي دور، بل كانت شريكة أساسية في بناء عالم المسرحية. حضورها على خشبة المسرح أضاف للعمل روحًا وجاذبية خاصة. كانت كأنها مركز الجاذبية الذي يدور حوله باقي الشخصيات، واستطاعت أن تخلق انسجامًا مع علي الحجار وميدو عادل، مما أضفى على العمل طاقة جماعية مميزة.
كان أداؤها كقطعة موسيقية تتناغم مع باقي عناصر المسرحية، لتقدم للجمهور عملًا فنيًا يلامس القلوب والعقول، ويثبت أن المسرح سيظل المنصة التي تضيء بأرواح الفنانين الكبار.
ثم يأتي علي الحجار: صوت القدر وأغنية الحلم.. الذي تحول صوته إلى شخصية قائمة بذاتها في المسرحية، وكأنه نبي يحذر من الكوارث القادمة، أو شاعر يغني عن جمال الحب وسط الخراب. علي لم يكن مجرد مؤدي أغنيات أو راوٍ للأحداث، بل كان روحًا تسبح في أجواء المسرحية، تضيف بعدًا فلسفيًا لكل مشهد.
صوته كان أشبه بموج البحر، يهدأ ليأخذنا إلى أعماق التأمل، ثم يثور ليُظهر شراسة القدر الذي لا يرحم. في أغانيه، شعرنا وكأن الحب نفسه يتحدث، يصرخ، يئن. استطاع علي الحجار أن يحول الكلمات إلى شظايا من المشاعر، تصل مباشرة إلى قلوب الجمهور.
لم يكن وجوده تقليديًا، بل لعب دور الجسر الذي يربط بين المشاهد والشخصيات. عندما يغني، كانت المسرحية تتحول إلى لوحة سريالية، تحمل كل أوجاع الحب وأسئلته. في لحظات معينة، بدا وكأنه “قدر” يتحدث بلسان الحب نفسه، يذكرنا بأن هذا الشعور لا يخضع للمنطق، بل هو قوة تسير في عروقنا، تأخذنا حيث لا نريد.
في مشاهدهما المشتركة، تمكن الثنائي من خلق حالة درامية شديدة التأثير، حيث كان أداء رانيا مليئًا بالدفء والرقة، بينما أضاف علي الحجار لمسة من العمق والروحانية.
كان وجودهما معًا على المسرح ينبض بتجسيد علاقة تتجاوز حدود الحب التقليدي لتصل إلى صداقة وأخوة تجسد معنى التعايش الحقيقي.
بين رانيا فريد شوقي وعلي الحجار، وجدنا ثنائية متكاملة تمثل صراع الحب مع القدر. الأول صوت يروي الحكاية ويُعطيها بعدًا كونيًا، والثانية وجه يعكس آلام البشر وأحلامهم. كانا معًا بمثابة المحور الذي يدور حوله هذا العمل الفريد، حيث شكّلا نبض المسرحية وروحها.
في قلب هذا العمل يقف ميدو عادل، ليس كمجرد ممثل يؤدي دوره، بل ككائن مسرحي حي يعبر عن كل متاهات الروح. كان أداؤه أقرب إلى رحلة إنسانية مؤلمة، مليئة بالأمل واليأس، بالشوق والخوف، بالصراخ والصمت. ميدو لم يكن “روميو” التقليدي الذي نعرفه من شكسبير، بل كان صورة مركبة لرجل يحاول الهروب من قدرٍ يُلاحقه، تماماً كما تهرب أرواح ديستويفسكي من ظلال خطاياها.
روميو “ميدو عادل” ليس عاشقاً حالماً فحسب، بل شابٌ مصري يحمل في داخله مزيجاً غريباً من الحماسة والانهزام. في كل نظرة من عينيه، في كل ارتجافة لصوته، نرى صورة الإنسان وهو يقف أمام مرآة وجوده، يتساءل عن جدوى الحب في عالم قاسٍ. لقد أبدع ميدو في تحويل كل حركة على المسرح إلى سردية فلسفية تتحدث عن الحرية، الخطيئة، والخلاص.
ميدو عادل: شعلة الشباب وقلب المسرحية النابض، ميدو عادل هو نجم العمل بامتياز، ليس فقط لأنه يمثل روميو، بل لأنه رمز لكل شاب يعيش تحديات العصر. بين ملامح وجهه التي تنبض بالصدق وأدائه الحركي الذي يعكس انفعالاته العميقة، استطاع ميدو أن يكون الرابط العاطفي بين الجمهور والقصة. هو العاشق، والمتمرد، والمغامر، الذي يجعل المشاهد يراه جزءاً منه، أو ربما انعكاساً لحياته الخاصة.
قدم “عزت زين” أداءً متقناً ومتوازناً، مظهراً قدرة فنية نادرة تجمع بين العمق والاحترافية. دور عزت زين لم يكن مجرد عنصر إضافي ضمن البناء المسرحي، بل كان عاملاً محورياً يُضيف بعداً درامياً وإنسانياً مميزاً للنص.
لعب عزت زين دوراً يبرز التناقضات العاطفية والمعرفية داخل الشخصيات الأخرى. كان حضوره على المسرح بمثابة صمام أمان للتوازن بين الحبكات المتشابكة.
سواء كان ظهوره في لحظات الصراع الحادة أو المشاهد الأكثر هدوءاً، فإن أداءه كان يفيض بصدق فني لافت، وكأنه صوت العقل وسط ضجيج العواطف.
بفضل خبرته الفنية العريقة، تمكن عزت زين من الاستفادة من الإضاءة وتعبيرات الجسد لإيصال انفعالات معقدة دون اللجوء إلى المبالغة. شخصيته كانت تعكس حكمة عميقة، وكأنها جسر يربط بين الأجيال المختلفة في المسرحية، مما أضفى بعداً فلسفياً ملهماً على العمل.
دور عزت زين كان أشبه بالنسيج الذي يربط عناصر المسرحية ببعضها البعض. أداؤه عزز من مكانة العمل ككل، وأثبت مرة أخرى أن الممثل المتمرس قادر على تحويل أي دور إلى تحفة فنية تضيف الكثير لروح النص ولتجربة المشاهد.
بهذا الشكل، يبقى عزت زين رمزاً للتألق المسرحي وجسراً يصل بين الجماليات الكلاسيكية والرؤى العصرية.
وجوه شابة وأداء يلفت الأنظار.. لا يمكن أن نغفل عن الأدوار المهمة التي أداها النجوم الشباب، الذين أضافوا بريقاً خاصاً لهذا العمل:
“دنيا النشار” شخصيتها في المسرحية تحمل تناقضًا جذابًا بين الرقة التي تعكس جوهرها الأنثوي، والتمرد الذي يتجلى في وقفاتها وحركاتها. استطاعت أن تخلق شخصية حقيقية، تمثل صوتًا داخليًا في الصراع بين الحب والواقع. كانت دنيا هي الرابط الذي يُوازن بين الحدة العاطفية للروميو والجوليت المصريين وبين الواقع الذي يفرض قوانينه القاسية.
دنيا النشار هي واحدة من تلك المواهب التي تعد بالكثير للمسرح المصري. أداؤها في “مش روميو وجوليت” يضعها في مصاف الجيل الجديد من الفنانين الذين لا يكتفون بالوقوف على خشبة المسرح، بل ينقلون أرواحهم إليه، ليصبح جزءًا من ذواتهم. حضورها ليس عابرًا، بل هو إعلان عن نجمة تضيء في سماء الفن، تنحت لنفسها مكانًا مميزًا في ذاكرة الجمهور.
“مايكل سيدهم” أضفى روحاً فكاهية ذكية توازن التوتر الدرامي، وأثبت أنه يمتلك أدوات ممثل حقيقي قادر على الانتقال بسلاسة بين الكوميديا والجدية.
“طه خليفة” قدم أداءً عاطفياً معقداً، جسد الصراع الداخلي للشخصية ببراعة تترك أثراً عميقاً.
“أميرة أحمد” قدمت حضوراً دافئاً، يعكس مزيجاً بين البراءة والصلابة، مما جعلها إضافة قوية للفريق.
الإخراج في “مش روميو وجوليت” كان أشبه بقيادة أوركسترا تعزف سيمفونية متكاملة. استطاع المخرج “عصام السيد” أن يوازن بين الأصالة والحداثة، حيث استخدم عناصر الإضاءة والديكور والموسيقى بشكل يخدم النص دون أن يطغى عليه. المشاهد تتلاحق بإيقاع مدروس، يمنح كل لحظة حقها، دون أن يشعر المشاهد بأي ملل.
هذا العمل لم يكن ليصل إلى هذا العمق لولا رؤية إخراجية تحمل في طياتها تساؤلات فلسفية عن دور الحب في مواجهة القدر. استطاع المخرج أن يجعل من الإضاءة، الموسيقى، والديكور شخصيات إضافية تساهم في بناء عوالم المسرحية، عوالم تبدو كأنها تعكس دواخل الروح الإنسانية.
النص الذي قدمته المسرحية يخرج عن حدود القصة التقليدية. هنا، الحب ليس فقط علاقة بين روميو وجوليت، بل هو مرآة للصراع الإنساني الذي يعيشه الجميع. النص يعكس بذكاء تعقيدات العلاقات الإنسانية في ظل الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، لكنه لا يفقد روح الأمل التي تجعل الجمهور يغادر المسرح وهو يشعر بأن التغيير ممكن.
في مش روميو وجوليت، الحب لم يكن فقط مشاعر تُقال أو أغنيات تُغنى. الحب هنا كان فلسفة، وطريقة لفهم الحياة. هذه المسرحية تعيد صياغة مفهوم الحب ليصبح قوة دافعة للتغيير، ووسيلة للتواصل بين الأجيال، وصرخة في وجه التقاليد التي تقيد الأرواح.
حين تُغلق الستارة على هذا العمل، يبقى الجمهور جالساً لبرهة، كأنه يستوعب الرسائل التي أُرسلت إليه عبر الأداء، والغناء، والحوار. هذه هي قوة مش روميو وجوليت: أنها ليست مجرد مسرحية، بل تجربة حية تعيد تعريف العلاقة بين الجمهور والمسرح.
“مش روميو وجوليت” لم تكن مجرد إعادة قراءة لعمل شكسبيري، بل كانت رحلة إلى أعماق النفس البشرية، حيث تتصارع الأحلام مع الحقائق، ويبحث الإنسان عن خلاصه في الحب، ولو كان قدره يرفض ذلك.
بهذا العرض، يثبت فريق العمل أن المسرح المصري لا يزال قادراً على تقديم فن يعكس الواقع ويتجاوزه، ويترك في القلوب أثراً لا يُنسى.