السينما الصينية الحديثة ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل أصبحت منصة للتعبير عن قضايا معاصرة تمس الوجدان الجماعي وتتحدث عن مشاغل المجتمعات.. من بين هذه الأعمال يتصدر فيلم “تم فك الشفرة” الذي عُرض في الدورة الـ45 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، بطرحه موضوعاً جوهرياً يرتبط بمفهوم السلطة ودور التكنولوجيا في حياة الأفراد. يطرح هذا الفيلم أسئلة عميقة حول طبيعة التجسس وحقيقة الحريات في عالم تغزوه التقنية وتسيطر عليه التكنولوجيا.
يتناول “تم فك الشفرة” قصة فريق من الخبراء في مجال فك الشفرات، يعملون ضمن إطار نظام تجسس شامل. يعكس الفيلم في سرديته صراعاً أزلياً بين الفرد والدولة في ظل أنظمة رقابة صارمة. يشكل عالم الشفرات والمسارات الرقمية عالماً خفياً يعكس واقعاً متزايد التعقيد، حيث تتلاشى الحدود بين الحرية والأمان وبين الخصوصية والسيطرة.
يحاول الفيلم من خلال الحبكة المعقدة والغنية بالتفاصيل تسليط الضوء على قضايا معاصرة تدور حول التكنولوجيا ودورها في فرض السيطرة. إن “تم فك الشفرة” ليس مجرد حكاية عن التجسس، بل هو استكشاف لثنائية الأمان الوطني مقابل الحرية الفردية، حيث تصبح التكنولوجيا أداة للسيطرة والتضييق. يوظف الفيلم الشفرات كرمز للقوة والتحكم، ما يعكس المخاطر التي تحيط بالعالم المعاصر الذي يعتمد على التكنولوجيا بشكل متزايد.
يعتمد المخرج على شخصيات تمثل طيفاً واسعاً من الأفراد الذين يتصارعون مع واقعهم، فمنهم من يخضع للنظام، ومنهم من يسعى للتمرد على قيوده. كل شخصية هنا تحمل رمزاً يمثل طموحات الفرد وهواجسه في مجتمعات مقيدة. يتضح هذا من خلال تطور الشخصيات، ما يعكس رؤية المخرج حول القوى التي تتلاعب بالإنسان وتحد من حريته. يظهر هذا الصراع الداخلي بجلاء، ليمثل مأساة فردية في ظل منظومة لا تقبل سوى بالولاء التام.
الرمزية هي محور العمل الفني هنا، حيث يستخدم المخرج عناصر بصرية قوية مثل الظلال والألوان الداكنة التي تعكس مشاعر العزلة والخوف. اختيار زوايا التصوير وحركة الكاميرا، إضافةً إلى الإضاءة الخافتة، يُضفي إحساساً بالعزلة التامة، وكأن الشخصيات تعيش في عالم مغلق محاصر. هذه الأجواء المشحونة توحي برهبة التكنولوجيا التي تلاحق كل حركة وتفك كل كلمة، ما يعزز من مشاعر القلق لدى المشاهد.
يستحضر الفيلم أبعاداً سياسية واجتماعية، حيث يندمج النقد السياسي مع النقد التقني بشكل عضوي. تصبح الشفرات في “تم فك الشفرة” رمزاً للتحديات المرتبطة بالتقدم التقني، خاصةً في مجالات المراقبة والاستخبارات. الفيلم يدعو للتساؤل حول أخلاقيات الرقابة والاستخدامات السرية للتكنولوجيا، محذراً من أن التحول الرقمي، رغم ما يقدمه من رفاهية وأمان، قد يصبح أيضاً قيداً يسيطر على حياة الأفراد.
ينجح الفيلم في خلق تأثير عاطفي قوي، خاصةً في المشاهد التي تنقل مشاعر التوتر والرهبة. يُفكك المخرج بمهارة آليات التأثير العاطفي ليربط المشاهد بشخصيات تعيش في حالة دائمة من الهروب والترقب. في لحظات الهدوء النسبي، يتساءل المشاهد عن إمكانية التحرر من هذه القيود. يثير الفيلم مشاعر معقدة ترتبط بفكرة التمرد والرغبة في كسر القيود، ويُبقي المشاهد في حالة تأمل وتساؤل.
يمكننا عقد مقارنة بين “تم فك الشفرة” وأفلام أخرى مثل “المدينة المخفية” أو “عين السمكة”، التي تناولت موضوعات شبيهة تتعلق بالصراع بين الفرد والمجتمع في ظل الرقابة والسلطة التقنية. السينما الصينية من خلال هذا الفيلم قد وضعت بصمة مميزة تساهم في فهم معاصر لأبعاد التقنية وتأثيرها على الحياة الفردية والجماعية.
يختتم “تم فك الشفرة” رحلته بتقديم رؤية معاصرة حول دور التكنولوجيا كأداة للسيطرة والرقابة، وما تحمله من أبعاد نفسية واجتماعية وسياسية. إنه فيلم يحث على التأمل في واقعنا المتغير بسرعة، حيث تصبح الحرية مسألة نسبية في عالم يزداد تعقيداً.