تخيّلوا معي مشهدًا واسعًا.. صحراء شاسعة ممتدة بلا نهاية، كأن الأرض قد خُلقت هكذا، لتكون مسرحًا لأسئلة الإنسان الأزلية. إنها الصحراء التي تبتلع كل شيء إلا الأرواح المُعلّقة بين السماء والأرض. هناك، حيث الرمل يهمس بحكايات قديمة دفنتها الرياح، ونجوم الليل تراقب البشر بعيونٍ غامضة لا تعرف الشفقة ولا السخرية.. هنا، في قلب الصحراء، ينبعث المسرح، فن بسيط في ظاهره، لكنه يُجبرك على مواجهة نفسك، وكأنك أُلقيت فجأة في مواجهة الحياة… الحياة في صورتها البدائية، التي لا تُخفي وحشيتها ولا جمالها.
لم يكن مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي مجرد فعالية ثقافية تُضاف إلى قائمة المهرجانات التي تحتفي بالفن المسرحي، بل هو في حقيقته حدث استثنائي يضع علامة فارقة في العلاقة بين الفن والبيئة، بين الإبداع والهوية، وبين التراث والمعاصرة. إنه ليس مهرجانًا يحتفل بالصحراء كفضاء جغرافي، وإنما يقرأها كقيمة حضارية وامتداد فكري وجمالي متجدد، تُعيد فيه إمارة الشارقة، بقيادة حاكمها المثقف، صياغة مفهوم المسرح بعيدًا عن القاعات المغلقة والديكورات الصمّاء.
لقد اختارت الشارقة، وهي قلعة الثقافة العربية في العصر الحديث، أن تُعيد تقديم المسرح من حيث بدأ، في الفضاء المفتوح وتحت السماء المترامية. ففي الصحراء، حيث امتدت جذور البداوة الأولى، وحيث تلاقى الإنسان مع الطبيعة في صراعٍ مفتوح على البقاء، وُلدت الحكاية الأولى وترددت أصداء الشعر والأغاني والأساطير. وهنا، جاء المسرح الصحراوي ليعيد ترتيب المشهد، ويبعث الحياة في تلك الحكايات التي أُودعت الرمال منذ قرون، ليقف الممثل فوق المسرح الرملي مسلّحًا بالبساطة، مُعتمدًا على الصدق الإنساني الخالص في أدائه.
إن الصحراء، كما تُعرف في الأدبيات العربية، ليست فراغًا جغرافيًا، إنها اختبار مستمر للحياة وقوتها، وللإنسان وثباته. وهنا تكمن عبقرية الفكرة، فالصحراء بكل ما فيها من جلال وخشونة تُجبر الفن على التجرد، وعلى العودة إلى أصله، حيث تُلغى كل الزوائد ويُعاد التركيز على جوهر المسرح: الحكاية، الإنسان، المكان.
في مسرح الشارقة الصحراوي، يغيب ذلك الفصل التقليدي بين الممثل والجمهور. فلا مقاعد ولا أضواء مصطنعة ولا جدران فاصلة، بل حوار مباشر بين الإنسان والفن، بين الفنان والطبيعة. إن الكثبان الرملية تصير ديكورًا، والسماء خلفية للمشهد، والرياح تُصبح جزءًا من الصوت المسرحي. كل شيء هنا طبيعي، لكن إتقانه يتطلب عبقرية في التقديم والتوظيف، وهو ما يميّز العروض المشاركة التي تجمع بين الشكل البدائي للمسرح وتقنيات العرض الحديثة.
تراث حي أم فن معاصر؟ إن أحد أهم الأسئلة التي يطرحها مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي هو.. هل الفن الذي يرتكز على التراث يُعتبر فنًا ماضويًا؟ أم أن استلهام التراث يُمكن أن يُثمر عن رؤية معاصرة؟ والإجابة الواضحة هي أن المهرجان نجح في تقديم مسرح ينطلق من التراث لكنه يتجاوزه. فهو يحيي الحكايات والأساطير التي خرجت من عمق الصحراء، لكنه يُعيد تشكيلها برؤى إخراجية حديثة تجعلها تتحدث إلى الإنسان المعاصر، بلغته وتحدياته وأحلامه.
لقد كانت العروض في دورات المهرجان المتعاقبة خير دليل على ذلك، فالنصوص المسرحية تُوظف القصص البدوية والشعر العربي القديم، لكن الإخراج يدمج بين التقليدي والحديث. تُستخدم الخيام والجمال والملابس البسيطة كرموز بصرية، لكن الحركة والإيقاع والتناغم تُضيف بُعدًا جديدًا للعرض. إنها مسرحية مُتجددة تحترم جذورها لكنها تتطلع إلى المستقبل.
دور الشارقة الريادي.. لا يمكن أن نغفل في هذا السياق الدور الريادي الذي تلعبه إمارة الشارقة في دعم الفن والثقافة. فهذا المهرجان ليس حدثًا عابرًا، بل هو جزء من مشروع ثقافي متكامل يجعل من الشارقة مركزًا للإبداع والفكر العربي. إن الرهان على مهرجان مسرحي في الصحراء لم يكن رهانًا سهلًا، لأن الفكرة بحد ذاتها تحمل تحديًا مزدوجًا.. تحدي البيئة الصعبة، وتحدي الجمهور الذي اعتاد المسرح بصورته التقليدية. ولكن، كما هو الحال مع كل مشروعات الشارقة، جاء المهرجان ليؤكد أن الثقافة الحقيقية لا تعرف حدودًا، وأن الإبداع يمكنه أن يزدهر في أي مكان طالما وُجدت الرؤية والإرادة.
الإنسان والصحراء… المعنى الأكبر.. في العمق، يُعيد مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي التذكير بالعلاقة الأزلية بين الإنسان والصحراء. فمنذ آلاف السنين، كانت الصحراء مصدر إلهام للشعراء والرحالة والفلاسفة. إنها المكان الذي تُختبر فيه قدرة الإنسان على التأمل، حيث السكون يفتح آفاق الخيال. وهكذا، يُصبح المسرح هنا امتدادًا لهذه العلاقة، وصورة رمزية للصراع الإنساني مع الطبيعة ومع ذاته.
إن ما يحدث في هذا المهرجان ليس مجرد عروض مسرحية، بل هو استدعاء للإنسان العربي في أصدق حالاته، حيث تُعاد صياغة الحكاية بلسان جديد، وتُبعث روح الفن في قلب الصحراء لتُعلن أن الحياة دائمًا ما تتغلب على السكون.
إن مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي يُقدم نموذجًا فريدًا للمسرح العربي، بل وربما للمسرح العالمي. فهو مسرح يتحدّى المكان ويُبدع في تجسيد اللحظة الإنسانية. وإذا كان المسرح هو فن الحضور الإنساني، فإن هذا المهرجان يُعيد للإنسان مكانته أمام الطبيعة، ويؤكد أن الفن قادر على أن يُشرق حتى في أقسى البيئات.
لعل أجمل ما في مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي أنه يُعيد إلينا ذلك الحس الفلسفي الذي افتقدناه في حياتنا الحديثة. عندما تجلس في الصحراء، وسط الظلام والهدوء، وتسمع الممثلين يرددون قصائد وأغاني عن الحب والحرب والموت، تشعر بأنك جزء من دائرة الحياة الكبرى. تدرك فجأة أن الإنسان، مهما تغيّرت أدواته وأزمانه، ما زال يبحث عن نفس الأسئلة: من أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟ وما معنى الحياة؟
لقد كان المهرجان دعوة صادقة للعودة إلى الجذور، دعوة لنتأمل ذواتنا بعيدًا عن صخب العالم الحديث، وأن ننصت لصوت الإنسان وهو يحكي… يحكي بلا مواربة، وبلا حواجز، وبلا زيف.
إن المسرح الصحراوي الذي ابتكرته الشارقة يُثبت لنا مرة أخرى أن الفن لا يُمكن أن يموت ما دام الإنسان قادرًا على أن يحكي حكايته. هذا المهرجان هو تأكيد على أن المسرح ليس حكرًا على المدن الكبيرة أو القاعات المزينة بالذهب، المسرح يعيش حيثما يعيش الإنسان، وحيثما تُروى الحكايات.
وفي الشارقة، حيث الصحراء تمتد لتُلامس الأفق، وحيث الرمال تُغطي خشبة المسرح بعباءتها الذهبية، يبقى المسرح فنًا خالدًا لا يموت… ويبقى الإنسان قادرًا على أن يُبدع، ما دامت في قلبه كلمة، وفي روحه حلم.
في نهاية المطاف، يُمكننا أن نقول “إن الفكرة عندما تكون عظيمة، فإنها تجد طريقها إلى التجسيد مهما بدت الظروف مستحيلة”. وهذا ما صنعه مهرجان الشارقة، حيث تحولت الصحراء إلى خشبة مسرحية نابضة بالحياة، تُحيي التراث وتُخاطب المستقبل في آنٍ واحد.