أون مصر
قالت دار الإفتاء المصرية إنه يحرم على المسلم الفطر في رمضان ما دام بالغًا عاقلًا خاليًا عن الأعذار والموانع، مؤكدة أن دعوى جواز ذلك بحجة أن الله ليس في حاجة إلى صيامه، دعوى فاسدة لفساد مبناها.
وأرجعت دار الإفتاء المصرية رأيها إلى أن الحق أن علة وجوب الصيام التعبد لله تعالى والطاعة والامتثال ليتحقق التسليم لأمر الله عزَّ وجلَّ.
وورد تساؤل لدار الإفتاء مفاده “كيف يكون الرد على ادعاء أنه يجوز للمسلم الثري الفطر في رمضان، ويطعم عن كل يوم عدة مساكين، بحجة أن الله ليس في حاجة إلى صيامه، فهل يجوز له الإفطار مع الإطعام؟”.
بيان فرضية صيام شهر رمضان
ذكرت دار الإفتاء عددا من الأسانيد الشرعية في شأن فتواها، مؤكدة أن صيام شهر رمضان من أركان الإسلام المعلومة من الدِّين بالضرورة، فقد دلَّ على ذلك القرآن والسُّنَّة وإجماع الأمة، فصيامه فرضُ عينٍ على كلٍّ مسلم بالغ عاقل خالٍ عن موانعه، قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
وقال الإمام أبو بكر الجصاص في “أحكام القرآن” (1/ 2011، ط. دار الكتب العلمية) في تفسير هذه الآية: [فالله تعالى أوجب علينا فرض الصيام بهذه الآية؛ لأن قوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ معناه: فُرِضَ عليكم] اهـ.
وقال الإمام القرطبي في “الجامع لأحكام القرآن” (2/ 272، ط. دار الكتب المصرية) في تفسير الآية الكريمة: [فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ لَمَّا ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية، ذكر أيضًا أنه كتب عليهم الصيام، وألزمهم إياه، وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه] اهـ.
وقال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185].
وقال الإمام ابن كثير في “تفسيره” (1/ 369، ط. دار الكتب العلمية): [هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر، أي: كان مقيمًا في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيح في بدنه: أن يصوم لا محالة] اهـ.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللهُ، وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» متفقٌ عليه.
وتتابع العلماء وتواردت عباراتهم إجماعًا على ذلك.
وقال الإمام ابن عبد البر في “التمهيد” (22/ 148، ط. أوقاف المغرب): [أجمع العلماء على أن لا فرض في الصوم غير شهر رمضان] اهـ.
وقال الإمام ابن القطان في “الإقناع في مسائل الإجماع” (1/ 226، ط. الفاروق الحديثة): [ولا خلاف بين العلماء في أن صيام شهر رمضان واجب] اهـ.
حكم الفطر للمسلم الثري في رمضان
ولا يجوز للمسلم الثري الفطر في رمضان ما دام بالغًا عاقلًا خاليًا عن الأعذار والموانع؛ إذ الإفطار في شهر رمضان بغير عذر حرام شرعًا، وحرمته قطعية، فإذا أكل أو شرب في نهار رمضان عامدًا عالمًا بوجوب الصوم عليه من غير عذرٍ ولا ضرورةٍ من سفرٍ أو مرضٍ أو نحوهما، فقد ظلم نفسَهُ باقترافِ كبيرة من كبائر الذنوب، والواجب عليه في هذه الحالة أن يتوب إلى اللهِ تعالى منها بالاستغفار والندم، مع وجوب قضاء الصيام لا الإطعام بإجماع الأئمة الأعلام.
فعن سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ رضي الله عنه، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادٍ رحمهم الله؛ فيمَن أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا مَرَضٍ، أنه: “يَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ” أخرجه البخاري في “صحيحه”.
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: أنه سُئِلَ عن رَجُلٍ أَفْطَرَ مِنْ رَمَضَانَ يَوْمًا مُتَعَمِّدًا، مَا كَفَّارَتُهُ؟ فقال: “يَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ، وَيَسْتَغْفِرُ اللهَ” أخرجه سعيد بن منصور في “السنن”، والبيهقي في “السنن”، وفي رواية ابن أبي شيبة أنه قال: “يَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ ذَلِكَ، وَيَتُوبُ إِلَيْهِ، وَيَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ”.
قال الإمام ابن عبد البر في “الاستذكار” (1/ 77، ط. دار الكتب العلمية): [وأَجْمَعَتِ الأمةُ ونَقَلَتِ الكافةُ فيمَن لم يَصُمْ رمضان عامدًا، وهو مؤمنٌ بفرضه، وإنما تركه أشرًا وبطرًا، تَعَمَّدَ ذلك ثم تاب عنه: أن عليه قَضَاءَهُ] اهـ.
الرد على دعوى جواز الفطر للمسلم الثري في رمضان
أما دعوى أن الله ليس في حاجة لصيام عبده، فيسوغ له الفطر مع الإطعام، فمبناها: جعل حاجة الله إلى العبادة علة للصوم، وعند انتفاء العلة ينتفي الحكم وهو: وجوب الصوم، وحيث سقط الحكم الأصل وهو الصوم، لزم الانتقال إلى الحكم الفرع وهو الإطعام، إلا أننا نمنع هذه الدعوى لفسادها تبعًا لفساد مبناها، حيث وقع مدعيها في مغالطة منطقية مقررة، وهي: “وَضْعُ مَا لَيْسَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ بِعِلَّةٍ”؛ كما في “مثارات الغلط في الأدلة” للشريف التلمساني (ص: 783، ط. مؤسسة الريان).
والأصل في الصوم أنه إنما شُرِعَ تعبدًا لله عزَّ وجلَّ ليتحقق التسليم لأمر الله عزَّ وجلَّ، إذ إن الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين: التعبدي في مقابل المعقول المعنى، والأصل في العبادات عدم التعليل على ما ذهب إليه الجمهور ما لم ترد العلة في النص فيُعمل بها، وما كان كذلك لا يكون موضعًا للقياس ولا للتغيير، ومبناه على التوقيف، بخلاف ما لو كان معللًا، فيكون معقول المعنى؛ ومن ثَمَّ يتأتى القياس ويحتمل التغيير.
قال الإمام أبو المظفر السمعاني في “قواطع الأدلة” (2/ 99، ط. دار الكتب العلمية): [من الأحكام: ما يُعْقَل معانيها، ومنها: ما لا يُعْقَل معانيها. ونحن إنما نستجيز القياس فيما نعقل معانيها، ولا نستجيز فيما لا يعقل معانيها، ووجه انقسام الشرع إلى هذين القسمين هو أن بعضها لا يُعْقَل معانيه؛ ليتحقق الإسلام لأمر الله عز وجل، وبعضها ما يعقل معناه ليتم شرح الصدور بتعليل ما يعقل معناه] اهـ.
وقال فيه أيضًا (2/ 169): [إننا نعلم أن كثيرًا من أصول الشرع يخلو عن المعاني خصوصًا في العبادات وهيئاتها والسياسات ومقاديرها] اهـ.
وقال فيه أيضًا (2/ 179): [عامة العبادات وتوابعها تكليفات لا يعقل معناها إلا القيام بالعبادة المحضة لله تعالى] اهـ.
فالعبادات مبناها على التعبد، أي الطواعية والإذعان وعدم معرفة الحكمة والعلة في ذلك، وإنما تفعل إجلالًا لرب العباد وانقيادًا إلى طاعته وطلبًا لثوابه، لأنها يجوز أن تتجرد عن جلب المصالح ودرء المفاسد، ثم يقع الثواب عليها بناءً على الطاعة والإذعان من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثواب، ودرء مفسدة غير مفسدة العصيان، بخلاف المعاملات فهي معللة بمصالح العباد، أي: بجلب المصالح ودرء المفاسد، فهي مما تعرف عللها، وتدرك حكمها. انظر: “قواعد الأحكام” للعزِّ ابن عبد السلام (1/ 18، 2/ 62، ط. دار المعارف).
قال الإمام ابن دقيق العيد في “إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام” (1/ 200، ط. مطبعة السنة المحمدية): [الغالب على العبادات التعبد، ومأخذها التوقيف] اهـ.
وقال الشيخ محيي الدين ابن عربي في “الفتوحات المكية” (3/ 448، ط. دار الكتب العلمية): [مذهبنا في جميع العبادات كلها أنها تعبد، مع عقلنا بعلل بعضها من جهة الشرع بحكم التعريف، أو بحكم الاستنباط عند أصحاب القياس، ومع هذا كله فلا نخرجها عن أنها تعبد من الله، إذ كانت العلل غير مؤثرة في إيجاد الحكم، مع وجود العلة وكونها مقصودة، وهذا أقوى في تنزيه الجناب الإلهي] اهـ.
وقال الإمام الشاطبي في “الموافقات” (3/ 138، ط. دار ابن عفان): [فقد علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات، وأنه غُلِّبَ في باب العبادات جهة التعبد، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني، والعكس في البابين قليل] اهـ.