هبة شوقي
في يومٍ من أيامنا التي لم تعد تخلو من المفاجآت الغريبة، خرجت علينا أصوات تقول إن السمسمية، هذه الآلة التي تتنفسها مدن القناة المصرية، ليست مصرية، بل هي من التراث السعودي! للوهلة الأولى، قد تبتسم من وقع العبارة على أذنك، ثم تتساءل في استنكار: كيف يمكن لآلةٍ عاشت بين أيدينا، وسكنت موانينا، أن تصبح فجأة “عابرة للحدود”؟
لكن، دعونا نتريث. هل يُعقل أن تتغير حقائق التاريخ؟ أم أن هناك حربًا خفية على التراث، تُخاض فوق أوتار النغم، في زمنٍ بات فيه “كل شيء قابلًا للمصادرة”؟
السمسمية ليست آلة موسيقية وحسب، بل هي رفيق درب للمصريين في منطقة القناة.. هي الأوتار التي نسجت قصص الكفاح والمقاومة، وملأت ليالي الصيادين والحرفيين بألحان تداعب الأمواج. عرفت السمسمية بيوت السويس، وشوارع الإسماعيلية، وزوايا بورسعيد. ارتبطت بتراث البحر الأحمر، حيث كان البحارة يعزفونها بحثًا عن عزاء وسط الغربة.
يرجع أصل السمسمية إلى آلة الطنبورة الفرعونية، تلك التي تُزين جدران المعابد بنقوشها، شاهدة على أن المصري القديم هو أول من جعل للأوتار صوتًا يغني. ومع مرور الزمن، تطورت الطنبورة إلى السمسمية التي أصبحت قلب الموسيقى الشعبية في مدن القناة، خصوصًا خلال فترة المقاومة ضد الاحتلال البريطاني.
ثم يأتي الصوت الآخر، قادمًا من بلادٍ بعيدة، ليخبرنا أن السمسمية “سعودية”! لا يمكننا إنكار أن للمملكة العربية السعودية اهتمامًا كبيرًا بتوثيق تراثها وإبراز هويتها الثقافية. لكن، هل من الإنصاف أن تُنسب آلة عاشت في حضن مصر، وسكنت ضميرها، إلى بلدٍ آخر لم يعرفها إلا مؤخرًا؟
ببساطة، يمكننا أن نرى في هذا الادعاء محاولةً لخلق هوية موسيقية جديدة في منطقة لم يكن للموسيقى الشعبية دورٌ مركزي فيها كما هو الحال في مصر. وفي هذا الإطار، يصبح تراث الآخرين ساحةً للاستعارة أو حتى المصادرة.
السمسمية مصرية… حقائق لا جدال فيها إذا كان التاريخ هو الحكم، فلنلقِ نظرة على الأدلة التي تثبت أن السمسمية ابنة شرعية للأرض المصرية:
السمسمية تعود بجذورها إلى الطنبورة، التي ظهرت في النقوش الفرعونية القديمة. أي أنها ولدت في مصر قبل آلاف السنين.
لا يمكن فصل السمسمية عن مدن القناة، حيث أصبحت جزءًا من الهوية الثقافية لهذه المناطق، تُعزف في الأفراح الشعبية، وتروي قصص البحارة والصيادين.
الموسيقيون الشعبيون والمؤرخون يؤكدون أن السمسمية تطورت في مصر، واكتسبت شكلها الحالي على يد الحرفيين المصريين.
ألحان السمسمية المصرية تعكس وجدان المصريين، فهي آلة مقاومة قبل أن تكون وسيلة تسلية. أغانيها، مثل “يا بيوت السويس” و”شدي حيلك يا بلد”، كانت صوت الشعب في وجه العدوان.
إن الادعاء بأن السمسمية تنتمي إلى التراث السعودي هو جزء من ظاهرة أوسع تتعلق بالسباق على الهوية الثقافية. ففي عصر العولمة، لم تعد الحدود الجغرافية تقف عائقًا أمام تصدير التراث أو حتى نسبه لغير أصحابه.
ولكن، ما نحتاجه هنا هو موقف أكثر جدية من جانب المؤسسات الثقافية المصرية. على وزارة الثقافة، والمجالس المتخصصة، والمراكز البحثية أن تتحرك لتوثيق التراث المصري وإبرازه في المحافل الدولية.
السمسمية… أوتار مصرية لا تعبر البحر.. السمسمية ليست مجرد آلة، بل هي نغمةٌ مصرية خالصة، تعبّر عن روحٍ تشبّعت بالمقاومة، وحب الحياة. الدفاع عنها ليس مجرد دفاع عن أداة موسيقية، بل هو دفاع عن هوية شعبٍ وتاريخه. وكما تُحفظ الأوطان من العدوان، يجب أن يُحفظ التراث من محاولات السطو، لأن الهوية الثقافية هي السلاح الذي نواجه به هذا العالم الذي يبدو فيه كل شيء قابلًا للتفاوض… حتى النغم.