الفن الحقيقي مازال يقدم على مسرح الثقافة الجماهيرية
ملحمة فنية تقدمها فرقة المنصورة القومية علي مسرح السامر
هل الخلاص يكون فرديا أم جماعيا .. سؤال يطرحه العرض المسرحي (الثأر ورحلة العذاب) للكاتب الكبير الراحل عن عالمنا العام الماضي محمد أبو العلا السلاموني، ولعل تقديم هذا العمل فى هذا التوقيت خير احتفاء به تخليدا لذكراه العمل من إخراج محمد عبد المحسن.
وقدمته فرقة المنصورة القومية علي مسرح السامر بالعجوزة ضمن العروض المشاركة فى المهرجان الختامي لفرق الأقاليم و الذي تقيمه الإدارة العامة للمسرح برئاسة الأستاذة سمر الوزير تحت رعاية الإدارة المركزية للشئون الفنية برئاسة الفنان تامر عبد المنعم والهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة عمرو بسيوني.
منذ اللحظة الأولي لفتح الستارة لمست حالة من الإنضباط فى كل تفاصيل العرض و دقته و كأنه يعرض على نفس المسرح منذ شهور و ليس مجرد عرض لليلة واحدة ضمن ليالي مهرجان.
اعتمد العرض فى خطة تغيير الديكور علي استخدام موتيفات بسيطة و لكنها موحية و ذات دلالات مهمة معبرة عن الواقعية السحرية التي تحتوي العديد من الدلالات و الرموز التتي استخدمها مهندس الديكور سمير زيدان كمان كان استخدامه لبعض الدلالات العصرية و المجسمات المعلقة دلالة شديدة الذكاء فى الربط بين الماضي و الحاضر و خلقت حالة من شحذ الذهن للمتلقي كما كان توظيف المخرج لها بالغ الدقة و الذكاء و استخدام خطة الإنتقال بين المشاهد بسلاسة بدون بلاك كامل طيلة زمن العرض كما أجاد المخرج في رسم خطوط حركة شديدة المهارة برغم بساطتتها و كذلك متفردة لكل شخصية علي الخشبة و متناغمة مع الجو النفسى لكل مشهد ووضح سيطرة المخرج في خلق حالة من المبارة في الأداء التمثيلي و برغم تدرج الأعمار السنية للممثلين فى العرض الآ أننا شعرنا طوال العرض بحالة من التناغم الشديد.
جاء استخدام الأشعار باللغة العامية اختيارا فى غاية الذكاء و حلا سحريا نجح فى خلق حالة من حميمية التلقي للعرض االمسرحي الناطق باللغة العربية الفصحي و جاء دور الشاعر مسعود شومان فى خلق معادل او استبدال بعض مناطق الدراما من خلال حوار غنائي استخدم فيه كلمات بسيطة ذات معاني عامة و لكنها مؤثرة فى سياق العرض المسرحي و كان واعيا بعدم الإتجاه للمباشرة و الخطابية فى التعبير.
و أضافت الألحان المعبرة للملحن عبد الله رجال حالة من الرصانة و المتعة للعرض المسرحي و سهولة فى التتلقي لدى المشاهد ؛ حتي أنني شاهدت العديد من الأطفال فى صالة العرض في حالة متابعة و انصات تام لمتابعة العرض المسرحي رغم أنه باللغة العربية الفصحي و التي أصبحت غير راسخة في ثقافة الأجيال الناشئة و لكن كان لسلاسة نطق الممثلين لها فى إجادة تامة و انضباط لغوي مدهش دوره حتي أنه لم تلتقط أذني طوال العرض المسرحي خطأ لغة عربية واحد و عندا اطلعت على البانفلت وجدت أن هناك مدقق لغة عربية ( بديع وديع ) و مصحح لغة ( يحيى الإتربي ) مما أكد وجهة نظري فى دقة اختيار المخرج و اهتمامه بكل تفاصيل العرض.
و رغم أن بعض المشاهد اتسمت بخفة الظل و الرشاقة مثل مشهد الحانة و مشهد قصر قيصر إلا أنهم لم يقعوا فى فخ الإستظراف والمبالغة الذي يقع فيه الكثير من الهواة و هذا أيضا دلالة على ان هناك وعي كافي لديهم بحساسية هذه الدوار والمشاهد في اطار خدمة السياق العام للعرض المسرحي.
كما كان دور الدراما الحركية لأيمن علي كبيرا في تفسير الحالة الغنائية لبعض المشاهد و اتفاقها مع رؤية المخرج و وضح الإتفاق بينهما فى خلق تعير حركي ذو دلالة و ليس مجرد خطوات ايقاعية تقليدية
و رغم صغر أعمار مجموعة الفتيان و الفتيات الذين بقومون بالأداء الحركي .. لكن كان يبدو عليهم الحماس و الإخلاص فى أداء التعبير الحركي و كذلك المشاهد التمثييلية سواء فى الحانة أو عند قيامهم بدور الكورس فى الربط بين المشاهد و قد أضفي حضورهم الحماس و الحيوية علي العرض المسرحي
الإعداد الدرامي لطارق فراج كان مكثفا و جاء اختصار اللوحة الأولي الخاصة بالملك ( حجر) اختيارا موفقا و تم استبدال ذلك بجمل علي لسان الشخصيات سواء فى الحوار التمثيلي أو كلمات أغنيةالأوفرتير، وكان ذلك مفيدا فى اختصار وقت العرض دون الإخلال بالبناء الدرامي.
وكان المخرج موفقا ببدء افتتاحية العرض بمشهد العرافة و التي قامت به (هالة عيد ) صاحبة الحضور الطاغي فكانت بداية ساخنة أخذتنا داخل أجواء العرض المسرحية منذ فتح الستار و جاء ظهورها مرة أخري فى مشهد الفينال ليؤكد عن وعيه الشديد بعناصر العرض و امساكه بخيوط الدراما لهذا النص المسرحي الذي يحمل عدة مستويات من التلقي.
وجاء استخدام تضمينات شعرية لأمل دنقل و محمود درويش موفقة جدا و بدت كأنها من نسيج النص المسرحي لأبو العلا السلاموني، تميزت أداءات الممثلين سواء من ذوي الخبرة مثل محمد بحيري فى دور (قيصر) و الأداء الرصين لياسر موافي فى دور( ربيعة) و كذلك خفة ظل أسامة فضل فى دور (عروة ) كما جاء تميز العنصر النسائي فى العرض واضحا فكانت دعاء عبد الباقي مقنعة فى دور ( رباب ) و هبة جمال فى دور (هند ) وكذلك هالة عيد فى دور ( العرافة ) و من بعد فى دور ( الكورس ) و نانسي عبد الله ( الساقية ) رغم قصر الدور و لكن نجحت فى رسم البسمة و معها فتيات الحانة نجاة الشربيني و سهيلة أحمد و وصال أشرف و كان حضور عماد برهوم و ابراهيم كمال و أحمد أبو العينين واثقا فى مشهد وفد ( بني أسد )، كذلك جاء أحمد أبو العينين رشيقا فى دور ( أمين القصر ) و محمود عثمان فى دور ( الحارس ).
كانت الإضاءة معبرة و مميزة فى معظم فترات العرض و ذات دلالات متفقة مع حالة كل مشهد و منضبطة فى توقيت تغييرها.
الملابس لحسام عبد الحميد كانت متفقة تماما مع زمن العرض و الدلالة اللونية لكل شخصية و بدا عليها الثراء.
الثأر ورحلة العذاب عرض مسرحي تضافرت فيه عناصر المتعة و النجاح لمخرج شاب يمتلك أدواته ..
و يعد نموذجا للأعمال الفنية القيمة التي تبقي كثيرا فى الذاكرة تعد وجها مشرفا للثقافة الجماهيرية..
كنت أتمني أن يكون هناك دعاية كافية خارج المسرح تجتذب الجمهور العادي لمشاهدة مثل هذه العروض القيمة و ألا يقتصر الحضور علي المسرحيين فقط.